فصل: تفسير الآيات (29- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (25):

{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)}
قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتَ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمًُ المُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيْمانِكُم بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ} قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد ومالك بن أنس في المدونة، الطول هنا السعةفي المال، وقال ربيعة وإبراهيم النخعي: الطول هنا الجلد والصبر لمن أحب أمة وهويها حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها، فإن له أن يتزوج الأمة إذا لم يملك هواها، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة، ثم يكون قوله تعالى: {لمن خشي العنت} على هذا التأويل بياناً في صفة عدم الجلد وعلى التأويل الآخر يكون تزوج الأمة معلقاً بشرطين: عدم السعة في المال وخوف العنت، فلا يصح إلا باجتماعهما، وهذا هو نص مذهب مالك في المدونة من رواية ابن نافع وابن القاسم وابن وهب وابن زياد ان الحر لا يتزوج الأمة على حال إلا ألا يجد سعة في المال لمهر حرة، وأن يخشى العنت مع ذلك، وقال مالك في كتاب محمد: إذا وجد المهر ولكنه لا بقدر على النفقة فإنه لا يقدر على النفقة فإنه لا يجوز له أن يتزوج أمة وقال أصبغ: ذلك جائز، إذ نفقة الأمة على أهلها إذا لم يضمها إليه، وقال مطرف وابن الماجشون: لا يحل للحر أن ينكح أمة ولا يقر إن وقع، إلا أن يجتمع الشرطان كما قال الله تعالى، وقاله أصبغ، قال: وقد كان ابن القاسم يذكر أنه سمع مالكاً يقول: نكاح الأمة حلال في كتاب الله عز وجل.
قال القاضي ابو محمد: وهو في المدونة، وقال سحنون في غيرها: ذلك في قوله تعالى: {وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} [النور: 32] وقاله ابن مزين.
قال القاضي أبو محمد: وليس في الآية ما يلزم منه تحليل الأمة لحر دون الشرطين، وقال مالك في المدونة: ليست الحرة بطول تمنع من نكاح الأمة إذا لم يجد سعة لأخرى وخاف العنت، وقال في كتاب محمد: ما يقتضي أن الحرة بمثابة الطول، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: وهو ظاهر القرآن، وروي نحو هذا عن ابن حبيب، وقاله أبو حنيفة: فمقتضى هذا أن من عنده حرة فلا يجوز له نكاح أمة، وإن عدم السعة وخاف العنت، لأنه طالب شهوة وعنده امرأة، وقال به الطبري واحتج له، و{طولاً}- يصح في إعرابه أن يكون مفعولاً بالاستطاعة، و{أن ينكح} في موضع نصب بدل من قوله: {طولاً} أو في موضع نصب بتقدير لأن ينكح، وفي هذا نظر، ويصح أن يكون {طولاً} نصباً على المصدر والعامل فيه الاستطاعة لأنها بمعنى يتقارب، و{أن ينكح} على هذا مفعول بالاستطاعة أو بالمصدر تقول: طال الرجل طولاً بفتح الطاء إذا تفضل ووجد واتسع عرفه، و{وطولاً} بضم الطاء في ضد القصر {والمحصنات} في هذا الموضع الحرائر يدل على ذلك التقسيم بينهن وبين الإماء، وقالت فرقة: معناه العفائف وهو ضعيف لأن الإماء يقعن تحته وقد تقدم الذكر للقراءة في {المحصنات} و{المؤمنات} صفة فأما من يقول في الرجل يجد طولاً لحرة كتابية لا لمؤمنة: إنه يمتنع عن نكاح الإماء، فهي صفة غير مشترطة، وإنما جاءت لأنها مقصد النكاح، إذ الأمة مؤمنة، وهذا المذهب المالكي، نص عليه ابن الماجشون في الواضحة ومن قال في الرجل لا يجد طولاً إلا الكتابية: إنه يتزوج الأمة إن شاء، فصفة {المؤمنات} عنده في الآية مشترطة في إباحة نكاح الإماء والمسألة مختلف فيها حسبما ذكرناه، و{ما} في قوله: {فمن ما ملكت أيمانكم} يصح أن تكون مصدرية تقديره: فمن ملك أيمانكم ويصح أن يراد بها النوع المملوك، فهي واقعة عليه، والفتاة- وإن كانت واقعة في اللغة على الشابة أية كانت، فعرفها في الإماء، وفتى- كذلك وهذه المخاطبات بالكاف والميم عامة، أي: منكم الناكحون ومنكم المالكون، لأن الرجل ينكح فتاة نفسه وهذا التوسع في اللغة كثير و{المؤمنات} في هذا الموضع صفة مشترطة عند مالك وجمهور أصحابه، لأنهم يقولون: لا يجوز زواج أمة غير مسلمة بوجه، وقالت طائفة من أهل العلم منهم أصحاب الرأي: نكاح الأمة الكتابية جائز، وقوله: {المؤمنات} على جهة الوجه الفاضل، واحتجوا بالقياس على الحرائر، وذلك أنه لما لم يمنع قوله: {المؤمنات} في الحرائر من نكاح الكتابيات الحرائر، فكذلك لا يمنع قوله: {المؤمنات} في الإماء من نكاح الكتابيات الإماء، وقال أشهب في المدونة: جائز للعبد المسلم أن يتزوج أمة كتابية.
قال القاضي أبو محمد: فالمنع عنده أن يفضل الزوج في الحرية والدين معاً، وقوله تعالى: {والله أعلم بإيمانكم} معناه: أن الله عليم ببواطن الأمور ولكم ظواهرها فإذا كانت الفتاة ظاهرها الإيمان فنكاحها صحيح، وعلم باطنها إلى الله، وإنما هذا لئلا يستريب متحير بإيمان بعض الإماء، كالقريبة عهد بالسباء، أو كالخرساء وما أشبهه. وفي اللفظ أيضاً تنبيه على أنه ربما كان إيمان أمة أفضل من إيمان بعض من الحرائر، أي: فلا تعجبوا بمعنى الحرية وقوله: {بعضكم من بعض} قالت طائفة: هو رفع على الابتداء والخبر، والمقصد بهذا الكلام، أي إنكم أيها الناس سواء بنو الحرائر وبنو الإماء، أكرمكم عند الله أتقاكم، فهذه توطئة لنفوس العرب التي كانت تستهجن ولد الأمة، فلما جاء الشرع بجواز نكاحها، أعلموا مع ذلك أن ذلك التهجين لا معنى له، وقال الطبري: هو رفع بفعل تقديره: فلينكح مما ملكت أيمانكم بعضكم من بعض فعلى هذا في الكلام تقديم وتأخير، وهذا قول ضعيف.
{فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بالمعروف مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
قوله: {بإذن أهلهن} معناه: بولاية أربابهن المالكين، وقوله: {وآتوهن آجورهن} يعني مهورهن قاله ابن زيد وغيره، و{بالمعروف} معناه: بالشرع والسنة، وهذايقتضي أنهن أحق بمهورهن من السادة وهو مذهب مالك قال في كتاب الرهون: ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز، قال سحنون في غير المدونة: كيف هذ؟ وهو لا يبوئه معها بيتاً. وقال بعض الفقهاء: معنى ما في المدونة: أنه بشرط التبوئة، فعلى هذا لا يكون قول سحنون خلافاً و{محصنات} وما بعده حال، فالظاهر أنه بمعنى عفيفات إذ غير ذلك من وجوه الإحصان بعيد إلا مسلمات فإنه يقرب، والعامل في الحال {فانكحوهن} ويحتمل أن يكون {فانكحوهن بإذن أهلهن} كلاماً تاماً، ثم استأنف {وآتوهن أجورهن مزوجات غير مسافحات} فيكون العامل {وآتوهن}، ويكون معنى الإحصان: التزويج، و{المسافحات} من الزواني: المبتذلات اللواتي هن سوق للزنا، {ومتخذات الأخذان}: هن المتسترات اللواتي يصحبن واحداً واحداً ويزنين خفية، وهذان كانا نوعين في زنا الجاهلية، قاله ابن عباس وعامر الشعبي والضحاك وغيرهم، وأيضاً فهو تقسيم عقلي لا يعطي الوجود إلا أن تكون الزانية إما لا ترد يد لامس وإما أن تختص من تقتصر عليه، وقوله تعالى: {فإذا أحصنَّ} الآية قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر {أُحصن} على بناء الفعل للمفعول وقرأ حمزة والكسائي على بناء الفعل للفاعل، واختلف عن عاصم فوجه الكلام أن تكون القراءة الأولى بالتزوج، والثانية بالإسلام أو غيره مما هو من فعلهن، ولكن يدخل كل معنى منهما على الآخر، واختلف المتأولون فيما هو الإحصان هنا، فقال الجمهور: هو الإسلام، فإذا زنت الأمة المسلمة حدت نصف حد الحرة- وإسلامها هو إحصانها الذي في الآية، وقالت فرقة: إحصانها الذي في الآية هو التزويج لحر، فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها، قاله سعيد بن جبير والحسن وقتادة، وقالت فرقة: الإحصان- في الآية التزوج، إلا أن الحد واجب على الأمة المسلمة بالسنة، وهي الحديث الصحيح في مسلم والبخاري، أنه قيل: يا رسول الله، الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ فأوجب عليها الحد. قال الزهري: فالمتزوجة محدودة بالقرآن والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الحديث والسؤال من الصحابة يقتضي أنهم فهموا من القرآن أن معنى {أحصنَّ} تزوجن، وجواب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك يقتضي تقرير المعنى ومن أراد أن يضعف قول من قال: إنه الإسلام بأن الصفة لهن بالإيمان قد تقدمت وتقررت فذلك غير لازم، لأنه جائز أن يقطع في الكلام ويزيد، فإذا كن على هذه الحالة المتقدمة من الإيمان {فإن أتين بفاحشة فعليهن}، وذلك سائغ صحيح، والفاحشة هنا: الزنى بقرينة إلزام الحد، و{المحصنات} في هذه الآية الحرائر، إذ هي الصفة المشروطة في الحد الكامل، والرجم لا يتنصف، فلم يرد في الآية بإجماع، ثم اختلف، فقال ابن عباس والجمهور: على الأمة نصف المائة لا غير ذلك، وقال الطبري وجماعة من التابعين: على الأمة نصف المائة ونصف المدة، وهي نفي ستة أشهر والإسشارة بذلك إلى نكاح الأمة، و{العنت} في اللغة: المشقة وقالت طائفة: المقصد به هاهنا الزنا، قاله مجاهد: وقال ابن عباس: ما ازلحف ناكح الأمة عن الزنا إلا قريباً، قال: و{العنت} الزنا، وقاله عطية العوفي والضحاك، وقالت طائفة: الإثم، وقالت طائفة: الحد.
قال القاضي أبو محمد: والآية تحتمل ذلك كله، وكل ما يعنت عاجلاً وآجلاً، وقوله تعالى: {وأن تصبروا خير لكم} يعني عن نكاح- الإماء- قاله سعيد بن جبير ومجاهد والسدي وابن عباس رضي الله عنهما، وهذا ندب إلى الترك، وعلته ما يؤدي إليه نكاح الإماء من استرقاق الولد ومهنتهن، وهذه الجملة ابتداء، وخبر تقديره: وصبركم خير لكم {والله غفور}، أي لمن فعل وتزوج.

.تفسير الآيات (26- 28):

{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)}
اختلف النحاة في اللام من قوله: {ليبين} فمذهب سيبويه رحمه الله: أن التقدير لأن يبين والمفعول مضمر، تقديره: يريد الله هذا، فإن كانت لام الجر أو لام كي فلابد فيهما من تقدير {أن} لأنهما لا يدخلان إلا على الأسماء وقال الفراء والكوفيون: اللام نفسها بمنزلة {أن} وهو ضعيف، ونظير هذه اللام قول الشاعر: [الطويل]
أريدُ لأنسى ذكرَها

وقال بعض النحاة: التقدير إرادتي لأنسى. {ويهديكم} بمعنى: يرشدكم، لا يتوجه غير ذلك، بقرينة السنن، وال {سنن}: الطرق ووجوه الأمور وأنحاؤها.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر من قوة هذا الكلام أن شرعتنا في المشروعات كشرعة من قبلنا، وليس ذلك كذلك، وإنما هذه الهداية في أحد أمرين، إما في أنّا خوطبنا في كل قصة نهياً وأمراً، كما خوطبوا في أيضاً في قصصهم، وشرع لنا كما شرع لهم، فهدينا سننهم في ذلك، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم، والأمر الثاني أن هدينا سننهم في أن أطعنا وسمعنا كما سمعوا وأطاعوا، فوقع التماثل من هذه الجهة، والذين من قبلنا: هم المؤمنون في كل شريعة، وتوبة الله على عبده هي رجوعه به عن المعاصي إلى الطاعات وتوفيقه له، وحسن {عليم} هنا بحسب ما تقدم من سنن الشرائع وموضع المصالح و{حكيم} أي مصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان.
وتكرار إرادة الله تعالى التوبة على عبادة تقوية للإخبار الأول، وليس المقصد في هذه الآية إلا الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات، فقدمت إرادة الله توطئة، مظهرة لفساد إرادة متبعي الشهوات، واختلف المتأولون في متبعي الشهوات، فقال مجاهد: هم الزناة، وقال السدي: هم اليهود والنصارى، وقالت فرقة: هم اليهود خاصة، لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب، وقال ابن زيد: ذلك على العموم في هؤلاء، وفي كل متبع شهوة، ورجحه الطبري، وقرأ الجمهور {ميْلاً} بسكون الياء، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {مَيلاً} بفتح الياء.
وقوله تعالى: {يريد الله أن يخفف عنكم} المقصد الظاهر بهذه الآية أنها في تخفيف الله تعالى ترك نكاح الإماء بإباحة ذلك، وأن إخباره عن ضعف الإنسان إنما هو في باب النساء، أي لما علمنا ضعفكم عن الصبر عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء، وكذلك قال مجاهد وابن زيد وطاوس، وقال طاوس: ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء.
قال القاضي أبو محمد: ثم بعد هذا المقصد تخرج الآية في مخرج التفضل، لأنها تتناول كل ما خفف الله تعالى عن عباده، وجعله الدين يسراً، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاماً، حسبما هو في نفسه ضعيف يستميله هواه في الأغلب و{الإنسان} رفع على ما لم يسم فاعله، و{ضعيفاً} حال، وقرأ ابن عباس ومجاهد {وخَلقَ الإنسان} على بناء الفعل للفاعل و{ضعيفاً} حال أيضاً على هذه القراءة ويصح أن يكون {خلق} بمعنى جعل، فيكسبها ذلك قوة التعدي إلى مفعولين، فيكون قوله: {ضعيفاً} مفعولاً ثانياً.

.تفسير الآيات (29- 30):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)}
هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكن إن كانت تجارة فكلوها، وقرأ المدنيون وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو: {تجارةٌ} بالرفع على تمام {كان} وأنها بمعنى: وقع، وقرأت فرقة، هي الكوفيون حمزة وعاصم والكسائي: {تجارةً} بالنصب على نقصان {كان}، وهو اختيار أبي عبيد.
قال القاضي أبو محمد: وهما قولان قويان، إلا أن تمام {كان} يترجح عند بعض، لأنها صلة {أن} فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها، وهذا ترجيح ليس بالقوي ولكنه حسن، و{أن} في موضع نصب، ومن نصب {تجارة} جعل اسم كان مضمراً، تقديره الأموال أموال تجارة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، أو يكون التقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة، ومثل ذلك قول الشاعر: [الطويل]
إذا كان يوماً ذا كواكبَ أشنعا

أي: إذا كان اليوم يوماً، والاستثناء منقطع في كل تقدير وفي قراءة الرفع. فأكل الأموال بالتجارة جائز بإجماع الأمّة، والجمهور على جواز الغبن في التجارة، مثال ذلك: أن يبيع الرجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة، فذلك جائز، ويعضده حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا يبع حاضر لبادٍ» لأنه إنما أراد بذلك أن يبيع البادي باجتهاده، ولا يمنع الحاضر الحاضر من رزق الله في غبنه، وقالت فرقة: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات، وأما المتفاحش الفادح فلا، وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله. و{عن تراض} معناه عن رضا، إلا أنها جاءت من المفاعلة، إذ التجارة من اثنين، واختلف أهل العلم في التراضي، فقالت طائفة: تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختر فيقول: قد اخترت، وذلك بعد العقدة أيضاً، فينجزم حينئذ، هذا هو قول الشافعي وجماعة من الصحابة، وحجته حديث النبي صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار» وهو حديث ابن عمر وأبي برزة، ورأيهما- وهما الراويان- أنه افتراق الأبدان.
قال القاضي أبو محمد: والتفرق لا يكون حقيقة إلا بالأبدان، لأنه من صفات الجواهر، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله: تمام التراضي أن يعقد البيع بالألسنة فتنجزم العقدة بذلك ويرتفع الخيار، وقالا في الحديث المتقدم: إنه التفرق بالقول، واحتج بعضهم بقوله تعالى: {وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته} [النساء: 130] فهذه فرقة بالقول لأنها بالطلاق، قال من احتج للشافعي: بل هي فرقة بالأبدان، بدليل تثنية الضمير والطلاق لا حظّ للمرأة فيه، وإنما حظها في فرقة البدن التي هي ثمرة الطلاق، قال الشافعي: ولو كان معنى قوله: يتفرقا بالقول الذي هو العقد لبطلت الفائدة في قوله: البيعان بالخيار، لأنه لا يشك في أن كل ذي سلعة مخير ما لم يعقد، فجاء الإخبار لا طائل فيه، قال من احتجّ لمالك: إنما القصد في الحديث الإخبار عن وجوب ثبوت العقد، فجاء قوله: البيعان بالخيار توطئة لذلك، وإن كانت التوطئة معلومة، فإنها تهيئ النفس لاستشعار ثبوت العقد ولزومها، واستدل الشافعي بقوله عليه السلام:
«لا يسم الرجل على سوم أخيه، ولا بيع الرجل على بيع أخيه» فجعلها مرتبتين لأن حالة البيعين بعد العقد قبل التفرق تقتضي أن يفسد مفسد بزيادة في السلعة فيختار بها حل الصفقة الأولى، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الإفساد، ألا ترى أنه عليه السلام قال: «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه» فهي في درجة؛ لا يسم، ولم يقل: لا ينكح على نكاح أخيه لأنه لا درجة بعد عقد النكاح تقتضي تخييراً بإجماع من الأمة، قال من يحتج لمالك رحمه الله: قوله عليه السلام: لا يسم ولا يبع، هي درجة واحدة كلها قبل العقد، وقال: لا بيع تجوزاً في لا يسم، إذ مآله إلى البيع، فهي جميعاً بمنزلة قوله: لا يخطب، والعقد جازم فيهما جميعاً.
قال القاضي أبو محمد: وقوله في الحديث «إلا بيع الخيار» معناه عند المالكين: المتساومان بالخيار ما لم يعقدا، فإذا عقدا بطل الخيار إلا في بيع الخيار الذي عقد من أوله على خيار مدة ما، فإنه لا يبطل الخيار فيه، ومعناه عند الشافعيين: المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما، إلا بيعاً يقول فيه أحدهما لصاحبه اختر فيختار، فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا، فإن فرض بيع خيار فالمعنى إلا بيع الخيار فإنه يبقي الخيار بعد التفرق بالأبدان، وقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} قرأ الحسن {ولا تقتّلوا} على التكثير، فأجمع المتأولون أن المقصد بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضها، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل، أو بأن يحملها على غرر ربما مات منه، فهذا كله يتناوله النهي، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد خوفاً على نفسه منه، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه.
وقوله تعالى: {ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً} اختلف المتأولون في المشار إليه بذلك، فقال عطاء: ذلك عائد على القتل لأنه أقرب مذكور، وقالت فرقة: ذلك عائد على أكل المال بالباطل وقتل لأن النهي عنهما جاء متسقاً مسروداً ثم ورد الوعيد حسب النهي وقالت فرقة ذلك عائد على كل ما نهى عنه من القضايا من أول السورة إلى قوله تعالى: {ومن يفعل ذلك} وقال الطبري: ذلك عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد، وذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً} [النساء: 19] لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد إلا من قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً} فإنه والنواهي بعده لا وعيد معها، إلا قوله: {ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً} والعدوان: تجاوز الحد، و{نصليه} معناه: نمسه حرها، كما تعرض الشاة المصلية، أي نحرقه بها، وقرأ الأعمش والنخعي، {نَصليه} بفتح النون، وقراءة الجمهور بضم النون على نقل صلى بالهمز، وقراءة هذين على لغة من يقول: صليته ناراً، بمعنى أصليته، وحكى الزجّاج أنها قد قرئت {نصَلِّيه} بفتح الصاد وشد اللام المكسورة ويسير ذلك على الله عز وجل، لأن حجته بالغة، وحكمه لا معقب له.